يفضل أغلب مثقفي عالمنا العربي في إطار العلاقة مع المؤسسة الرسمية تجاوز الانجازات مهما كان حجهما والانزياح إلى الحديث عن صور من السجال شتى، مع المؤسسة تارة، ومع المجتمع تارة، ومع التراث تارة أخرى. ليس الصراع -في شقه الفكري- بدعاً من أمر المثقف، فهناك من يزعم أن السجال في صورته الهيجيلة يمثل إحدى اللبنات التكوينية لـ”العقل العربي” الذي ما يزال يعيش نزاعاً وجوديا بين تراث الماضي وصراعاته وبين قيم الحاضر وتحدياته.
في عمان تتخذ العلاقة بين المثقف والمؤسسة الرسمية أشكالا متعددة لا تخلو في بعض الأحيان من خصوصية نابعة من فرادة التجربة العمانية التي قامت فيها الطفرة العلمية والمعرفية في عمان خلال الأربعين عاما الماضية باختزال حقبة زمنية طويلة عاشتها أغلب البلدان العربية التي انتقلت تدريجيا من أرياف الكتاتيب والأمية إلى مدنية الجامعات والمعرفة. هذه الخصوصية بجانب حسناتها اللامتناهية خلقت إشكالاتها الخاصة المضافة إلى المشكلات المشتركة التي يعيشها المثقف العربي.
المثقف العربي يزعم أنه يعرف كل شيء، أو على الأقل هو يرى نفسه الأكثر جدارة من غيره من رموز النظام السياسي والديني والقبلي في التصدي للشأن العام، بينما تقابله تلك الرموز بالتهميش والنفي والإقصاء باعتباره لا مجرد منافس على السلطة وحسب بل هو عنصر قلق وبؤرة إزعاج مزمن لا تتعامل معه بعض الأنظمة سوى بالاستئصال أو الكي.
مشكلة العلاقة بين الطرفين قطعاً ليست بالبساطة والوضوح الذي قدمناه، فالمشكلة تبدأ من تعريف الثقافة ما هي، وتحديد من هو المثقف، والأدوار التي يضطلع بها، فلا المثقف يستطيع التصالح مع ذاته والاتفاق مع أقرانه حول هذه المفاهيم، ولا المؤسسة الرسمية تستطيع القبول بما يفرضه عليها المثقف من مضامين ترى فيها تدخلا في سلطاتها.
يرى بعض المثقفين أن المؤسسة الرسمية بالرغم من انجازاتها التي لا تخطئها العين قد فصّلت مفهوم الثقافة على مقاس اهتماماتها، فانتقت من الثقافة جوانبها الفولكلورية واحتفت بالمثقفين الذين يقتصر إبداعهم من شعر ونثر على التسلية والمتعة، أما من يتجاوز إبداعه حدود الأهازيج والترف فمقصات الرقيب بالمرصاد، وما طال مجلة الغدير، وديوان أبي مسلم البهلاني ومؤلفات المرحوم عبدالله الطائي، دفع بعدد لا بأس به من المثقفين إلى مقاطعة وسائل النشر التقليدية والانعزال في مدوناتهم الرقمية، وبعضهم قام بإنشاء مجلات إلكترونية لا يطالها مقص الرقيب.
بل وينتاب بعض المثقفين شعور بأن الاتجاه المسموع في المؤسسة الرسمية هو الاتجاه المعبر عن (رأس المال)، الذي ينتهج إستراتيجية قوامها أن التعامل مع الجوانب الثقافية يجب أن لا يكون إلا من خلال بوابات (البورصة) والأرباح المادية، بل ويذهب الشطط ببعض المثقفين إلى القول بأن اتجاه (رأسَمَالَة) الثقافة هذا يحول بأفكاره المبنية على ثقافة السوق بين رغبة السلطان الجادة في دعم الثقافة وبين كنوز معرفية يختزنها التراث العماني ويحاول المثقف العماني جاهدا احتطابها. وأن هذا الاتجاه قد عمد إلى تجفيف ينابيع الدعم المالي عن الدوريات الثقافية الجادة مثل مجلة النهضة والسراج، وقام بإنشاء مجلات تجارية مرتبطة بمؤسساته الخاصة الأمر الذي أدى إلى بروز ظاهرة المجلات التجارية القائمة في أغلبها على الإعلانات الغثة والمقالات الرثة.
ويرى بعض المثقفين إنشاء وزارة الثقافة والتراث يعتبر إنجازا عظيما لولا تراجع نشاط هذه المؤسسة الرائعة عما ابتدأت بها من نجاحات تجلت في نشر المخطوط العماني وترميم الكثير من القلاع والحصون الأثرية، ويرى هؤلاء أن أغلب المؤسسات الرسمية لا تعتمد إستراتيجية ثقافية واضحة، بل هي في كثير من الأحيان إنما تسير وفق رغبات وميول المسئولين المتعاقبين عليها، والذين هم في أغلب الأحيان لا علاقة لهم بالثقافة وهمومها.
في الجانب الآخر حين يهيأ للمؤسسات المعنية بالثقافة شخصيات ذوي ميول ثقافية واهتمامات فكرية تتفاعل تلك المؤسسات مع نبض المثقف فتحدث حالة من الخصوبة الإبداعية تتكلل بالتألق الثقافي لدى الطرفين،وأوضح مثال على ذلك مؤسسة “النادي الثقافي” الذي كانت منشئاته أشبه بخرائب تصفر فيها الريح، إلى أن أمدتها الأقدار برئيس مثقف، فتحولت الأطلال إلى قصر مشيد من الفعاليات والأمسيات والملتقيات، الأمر الذي توج بتبني النادي لمشروع دعم الكتاب الوطني، هذا إضافة إلى مشاريع ثقافية رائدة استطاع من خلالها حكماء المؤسسة الرسمية التواصل مع المثقف ومد جسور الثقة بينهم وبينه، من قبيل المنتدى الأدبي ومسابقاته وندواته الرائدة،ومشروع مجلة نزوى التي استطاعت أن تنتقل بالإبداع العماني إلى مصافي العالمية، حيث تعتبر المجلة مرجعا معتمدا لدى الكثير من الجامعات الدولية.
وما هذه النجاحات التي يفخر بها كل عماني سوى انعكاس لحالة (المد) في بحر الانتماء الوطني بين المسئول والمثقف العمانيين حين يتماهيان في مشروع ثقافي وطني. بيد أنه علينا الإقرار كذلك أن هناك حالة من (الجزر) في بحر الاحتفاء بالثقافة والمثقف العماني ينبغي على المؤسسة الرسمية تداركها.
إن عمان وبعد أربعين عاما من التنمية الشاملة لا ينقص من شأن نهضتها اكتشاف أوجه القصور والنواقص فيما يتعلق بالجانب الثقافي، بل إن من أوجب واجبات الولاء للوطن والسلطان أن يتم تشخيص أمثال هذه الهنات التي سيؤدي ترميمها وتقويمها إلى تدعيم عجلة النهضة واستمراريتها.
هناك مسؤوليات كثيرة ملقاة على الطرفين، فالمثقف العماني مطالب بالواقعية في الطرح، ومطالب أيضاً بالابتعاد عن حالة التذمر المزمن التي طبع عليها الكثير من المثقفين، وهو مطالب كذلك بعدم الانسحاب من ميدان الفعل الثقافي. على المثقف أن يبتدع وسائله وطرائقه الخاصة التي يستطيع من خلالها المشاركة في تدعيم مشاريع النهضة الوطنية، وأن يتعالى على المواقف الشخصية النرجسية وأن يتسع صدره لسماع وجهة نظر المسؤول.
المؤسسة الرسمية في الجانب الآخر مطالبة باستيعاب المثقفين في برامج عملها الوطني والاستماع إلى آرائهم والاستفادة من خبراتهم، ولعل انضمام مجموعة من المثقفين الرواد إلى مجلس الدولة يعتبر بادرة ينبغي البناء عليها، كما ينبغي على المؤسسة الرسمية وضع استراتيجيات وطنية واضحة من أجل النهوض بالشأن الثقافي ابتداء من إنشاء مكتبة وطنية عامة، وتشييد متاحف وطنية، ودعم جهود الحفاظ على التراث العماني وتحقيق ونشر المخطوطات العمانية، وإقامة مؤسسة مختصة بالموسوعة الثقافية العمانية. كما يلزمها تحرير رقبة العمل الثقافي من عبودية رأس المال، إضافة إلى ضرورة مراجعة قوانين النشر وتطويرها بما يتناسب الواقع الفكري والاجتماعي الراهن، وعلى المؤسسات العلمية كجامعة السلطان قابوس ومجلس البحث العلمي الاهتمام بالجانب الثقافي بدل الانهماك في روتين الأعمال الأكاديمية. بهذه الاستراتيجيات وغيرها الكثير سيتمكن المثقف والمؤسسة الرسمية من ترسيخ ظاهرة (المد) والعطاء من أجل خدمة هذا الوطن.
نشر في ملحق شرفات، جريدة عمان، يوم الأثنين 29/11/2010
في عمان تتخذ العلاقة بين المثقف والمؤسسة الرسمية أشكالا متعددة لا تخلو في بعض الأحيان من خصوصية نابعة من فرادة التجربة العمانية التي قامت فيها الطفرة العلمية والمعرفية في عمان خلال الأربعين عاما الماضية باختزال حقبة زمنية طويلة عاشتها أغلب البلدان العربية التي انتقلت تدريجيا من أرياف الكتاتيب والأمية إلى مدنية الجامعات والمعرفة. هذه الخصوصية بجانب حسناتها اللامتناهية خلقت إشكالاتها الخاصة المضافة إلى المشكلات المشتركة التي يعيشها المثقف العربي.
المثقف العربي يزعم أنه يعرف كل شيء، أو على الأقل هو يرى نفسه الأكثر جدارة من غيره من رموز النظام السياسي والديني والقبلي في التصدي للشأن العام، بينما تقابله تلك الرموز بالتهميش والنفي والإقصاء باعتباره لا مجرد منافس على السلطة وحسب بل هو عنصر قلق وبؤرة إزعاج مزمن لا تتعامل معه بعض الأنظمة سوى بالاستئصال أو الكي.
مشكلة العلاقة بين الطرفين قطعاً ليست بالبساطة والوضوح الذي قدمناه، فالمشكلة تبدأ من تعريف الثقافة ما هي، وتحديد من هو المثقف، والأدوار التي يضطلع بها، فلا المثقف يستطيع التصالح مع ذاته والاتفاق مع أقرانه حول هذه المفاهيم، ولا المؤسسة الرسمية تستطيع القبول بما يفرضه عليها المثقف من مضامين ترى فيها تدخلا في سلطاتها.
يرى بعض المثقفين أن المؤسسة الرسمية بالرغم من انجازاتها التي لا تخطئها العين قد فصّلت مفهوم الثقافة على مقاس اهتماماتها، فانتقت من الثقافة جوانبها الفولكلورية واحتفت بالمثقفين الذين يقتصر إبداعهم من شعر ونثر على التسلية والمتعة، أما من يتجاوز إبداعه حدود الأهازيج والترف فمقصات الرقيب بالمرصاد، وما طال مجلة الغدير، وديوان أبي مسلم البهلاني ومؤلفات المرحوم عبدالله الطائي، دفع بعدد لا بأس به من المثقفين إلى مقاطعة وسائل النشر التقليدية والانعزال في مدوناتهم الرقمية، وبعضهم قام بإنشاء مجلات إلكترونية لا يطالها مقص الرقيب.
بل وينتاب بعض المثقفين شعور بأن الاتجاه المسموع في المؤسسة الرسمية هو الاتجاه المعبر عن (رأس المال)، الذي ينتهج إستراتيجية قوامها أن التعامل مع الجوانب الثقافية يجب أن لا يكون إلا من خلال بوابات (البورصة) والأرباح المادية، بل ويذهب الشطط ببعض المثقفين إلى القول بأن اتجاه (رأسَمَالَة) الثقافة هذا يحول بأفكاره المبنية على ثقافة السوق بين رغبة السلطان الجادة في دعم الثقافة وبين كنوز معرفية يختزنها التراث العماني ويحاول المثقف العماني جاهدا احتطابها. وأن هذا الاتجاه قد عمد إلى تجفيف ينابيع الدعم المالي عن الدوريات الثقافية الجادة مثل مجلة النهضة والسراج، وقام بإنشاء مجلات تجارية مرتبطة بمؤسساته الخاصة الأمر الذي أدى إلى بروز ظاهرة المجلات التجارية القائمة في أغلبها على الإعلانات الغثة والمقالات الرثة.
ويرى بعض المثقفين إنشاء وزارة الثقافة والتراث يعتبر إنجازا عظيما لولا تراجع نشاط هذه المؤسسة الرائعة عما ابتدأت بها من نجاحات تجلت في نشر المخطوط العماني وترميم الكثير من القلاع والحصون الأثرية، ويرى هؤلاء أن أغلب المؤسسات الرسمية لا تعتمد إستراتيجية ثقافية واضحة، بل هي في كثير من الأحيان إنما تسير وفق رغبات وميول المسئولين المتعاقبين عليها، والذين هم في أغلب الأحيان لا علاقة لهم بالثقافة وهمومها.
في الجانب الآخر حين يهيأ للمؤسسات المعنية بالثقافة شخصيات ذوي ميول ثقافية واهتمامات فكرية تتفاعل تلك المؤسسات مع نبض المثقف فتحدث حالة من الخصوبة الإبداعية تتكلل بالتألق الثقافي لدى الطرفين،وأوضح مثال على ذلك مؤسسة “النادي الثقافي” الذي كانت منشئاته أشبه بخرائب تصفر فيها الريح، إلى أن أمدتها الأقدار برئيس مثقف، فتحولت الأطلال إلى قصر مشيد من الفعاليات والأمسيات والملتقيات، الأمر الذي توج بتبني النادي لمشروع دعم الكتاب الوطني، هذا إضافة إلى مشاريع ثقافية رائدة استطاع من خلالها حكماء المؤسسة الرسمية التواصل مع المثقف ومد جسور الثقة بينهم وبينه، من قبيل المنتدى الأدبي ومسابقاته وندواته الرائدة،ومشروع مجلة نزوى التي استطاعت أن تنتقل بالإبداع العماني إلى مصافي العالمية، حيث تعتبر المجلة مرجعا معتمدا لدى الكثير من الجامعات الدولية.
وما هذه النجاحات التي يفخر بها كل عماني سوى انعكاس لحالة (المد) في بحر الانتماء الوطني بين المسئول والمثقف العمانيين حين يتماهيان في مشروع ثقافي وطني. بيد أنه علينا الإقرار كذلك أن هناك حالة من (الجزر) في بحر الاحتفاء بالثقافة والمثقف العماني ينبغي على المؤسسة الرسمية تداركها.
إن عمان وبعد أربعين عاما من التنمية الشاملة لا ينقص من شأن نهضتها اكتشاف أوجه القصور والنواقص فيما يتعلق بالجانب الثقافي، بل إن من أوجب واجبات الولاء للوطن والسلطان أن يتم تشخيص أمثال هذه الهنات التي سيؤدي ترميمها وتقويمها إلى تدعيم عجلة النهضة واستمراريتها.
هناك مسؤوليات كثيرة ملقاة على الطرفين، فالمثقف العماني مطالب بالواقعية في الطرح، ومطالب أيضاً بالابتعاد عن حالة التذمر المزمن التي طبع عليها الكثير من المثقفين، وهو مطالب كذلك بعدم الانسحاب من ميدان الفعل الثقافي. على المثقف أن يبتدع وسائله وطرائقه الخاصة التي يستطيع من خلالها المشاركة في تدعيم مشاريع النهضة الوطنية، وأن يتعالى على المواقف الشخصية النرجسية وأن يتسع صدره لسماع وجهة نظر المسؤول.
المؤسسة الرسمية في الجانب الآخر مطالبة باستيعاب المثقفين في برامج عملها الوطني والاستماع إلى آرائهم والاستفادة من خبراتهم، ولعل انضمام مجموعة من المثقفين الرواد إلى مجلس الدولة يعتبر بادرة ينبغي البناء عليها، كما ينبغي على المؤسسة الرسمية وضع استراتيجيات وطنية واضحة من أجل النهوض بالشأن الثقافي ابتداء من إنشاء مكتبة وطنية عامة، وتشييد متاحف وطنية، ودعم جهود الحفاظ على التراث العماني وتحقيق ونشر المخطوطات العمانية، وإقامة مؤسسة مختصة بالموسوعة الثقافية العمانية. كما يلزمها تحرير رقبة العمل الثقافي من عبودية رأس المال، إضافة إلى ضرورة مراجعة قوانين النشر وتطويرها بما يتناسب الواقع الفكري والاجتماعي الراهن، وعلى المؤسسات العلمية كجامعة السلطان قابوس ومجلس البحث العلمي الاهتمام بالجانب الثقافي بدل الانهماك في روتين الأعمال الأكاديمية. بهذه الاستراتيجيات وغيرها الكثير سيتمكن المثقف والمؤسسة الرسمية من ترسيخ ظاهرة (المد) والعطاء من أجل خدمة هذا الوطن.
نشر في ملحق شرفات، جريدة عمان، يوم الأثنين 29/11/2010